يشترك كل من التسويق السياسي والتجاري في العديد من الجوانب، ففي عالم التجارة يرمي صاحب البضاعة إلى إقناع الزبون باقتناء بضاعته، أما في مضمار السياسة، فيرمي السياسي بحباله من أجل إقناع الناخب بالبرنامج أو الخطة السياسية التي سينهجها في حال انتخابه. وذلك بوسائل مختلفة من ضمنها الشعارات السياسية، التي تتطلب قدرة كبيرة على تطويع الكلمات والعزف على القوافي واستخدام عبارات جذابة. وهذا يحتاج إلى مهارات كبار المسوقين وأبحاث تدرس سلوك المستهلكين الناخبين، فمن هذه الشعارات ما يثير الإعجاب ويخطف الألباب، ومنها ما يكون غريبا عجيبا محرجا للمرشح نفسه، وفي الغالب ما تعكس الشعارات السياسية المزاج العام أو الواقع الذي تعيشه الدولة.
لا يعد استعمال الشعارات السياسية في الحملات الانتخابية الأمريكية وليد اليوم، بل يعود إلى 1840، حقبة المرشح الرئاسي ويليام هينري هاريسون، وكان شعاره “Tippecanoe and Tyler Too” تيبيكانو وتايلر أيضا، تيبيكانو معركة، دارت رحاها بولاية إنديانا بين القوات الأمريكية، بقيادة هاريسون، وبين الأمريكيين الأصليين، وتايلر اسم نائب المرشح الرئاسي آنذاك. هذا الشعار قد يكون دغدغ مشاعر الناخبين، من أجل انتخاب هاريسون ليكون الرئيس التاسع في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه استثمر تجربته العسكرية في معركة تيبيكانو، وسوق لنفسه في الحملة الانتخابية ليقنع الناخبين بالتصويت له.
ولم تتوقف الشعارات السياسية برحيل هاريسون، وأصبحت تقليدا بل ركنا أساسيا في كل الحملات الانتخابية التي شهدتها أمريكا مرورا بالرئيس أبراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية (1861-1865) بشعاره "Don't change horses midstream" (1864)، "لا تغير الأحصنة في منتصف الطريق"، قاصدا بذلك رفضه تغيير الجنرالات في عز الحرب الأهلية التي شهدتها أمريكا في عهده، وهو شعار تفوح منه رائحة بارود الحرب الضروس التي كادت تعصف بوحدة الدولة الفتية.
ومع مطلع القرن العشرين، برزت شعارات عكست الواقع الأمريكي، وخير دليل على ذلك شعار الرئيس، هربرت كلارك هوفر، من عام 1929 إلى 1933، الفترة التي صادفت تبعات الكساد الكبير، وكان شعاره ذو صبغة اقتصادية، chicken in every pot and a car in every garage""، "دجاجة في كل قدر وسيارة في كل مرآب". شعار انقلب على الرئيس هوفر في الحملة الانتخابية عام 1932، حيث استخدمه الديموقراطيون لإحراجه لأنه لم يحقق ما وعد به الأمريكيين، وللأمانة العلمية يجب أن نذكر ما قالته نيويورك تايمز بأن هذا الشعار استعمله مناصرون محليون للرئيس ولم يستعمله شخصيا.
ويعتبر فرانكلين روزفلت من أشهر الرؤساء الأمريكيين الذين استعملوا شعارات جذابة، حيث استوحى شعار حملته الانتخابية (1932) من أغنية "Happy Days Are Here Again" ويعني "الأيام السعيدة عادت من جديد". وهي أغنية صدرت عام 1929 لميلتون أجير وكلمات جاك يلين، الشعار الأغنية ربما قد يكون وراء فوز الرئيس صاحب "The New Deal"، "الصفقة الجديدة" بالانتخابات الأمريكية في 1933، ويصنف روزفلت كأحد أعظم ثلاثة رؤساء أمريكيين، إلى جانب جورج واشنطن وأبراهام لينكون.
ومن أشهر الشعارات السياسية التي استخدمت في التاريخ الانتخابي الأمريكي نجد على سبيل المثال شعار الرئيس دوايت أيزنهاور (1952) "I Like Ike" "أحب آيك"، وآيك هو لقب أيزنهاور، وشعار "Let's Make America Great Again" "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" في عام 1980 الذي استخدمه رونالد ريغان، أول مرة وقلده مرشحون آخرون من بعده، شعار جعل من ريغان مرشحا ناجحا. واستعمل ريغان شعارا آخر، وهو “Morning In America” (1984)"، الصباح في أمريكا، حيث بشر بالرفاهية التي سيستمر فيها المواطن الأمريكي، الأمر الذي كان له وقعه على الناخب الأمريكي، ليفوز بذلك ريغان بولاية ثانية. كما أن هناك الكثير من الشعارات الأخرى التي استعملت لا يتسع المجال لذكرها.
وفي السنوات الأخيرة، كان لهذه الشعارات وقع آخر مع انتشار الانترنت وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وكان شعار “Yes We Can” (2008)"نعم نستطيع"، لباراك أوباما يختزل في طياته الكثير من المعاني والرموز، فأوباما كان أول رئيس من أصل إفريقي لأمريكا، وربما كان شعاره يعكس نضالات السود لانتزاع حقوقهم السياسية منذ مدة طويلة. وفعلا استطاع أوباما أن يكسر القواعد السائدة، ووصل إلى سدة الحكم في أمريكا، وخلال حملته لم يكتف بشعار واحد بل استعمل أكثر من شعار مثل "Change We Can Believe In" التغيير الذي نؤمن به، و "The Change We Need" التغيير الذي نحتاجه، وهي شعارات عكست صفحة ما بعد حقبة بوش، التي تميزت بخوض أمريكا لحرب أفغانستان والعراق.
وعدنا ما بعد أوباما مع أحد الرؤساء الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي بتصريحاته وقراراته وتغريداته وشعاراته أيضا، دونالد ترامب، لمشاهدة شعار قديم، أعاد صياغته واستعمله، كان سبقه إليه رونالد ريغان، وهو "Make America Great Again" "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". ترامب استعمل أيضا شعار "Build the Wall" "لنبن الجدار"، يقصد بذلك الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك من أجل الحد من الهجرة السرية نحو أمريكا، شعارات كانت من الوسائل التي أثرت في الناخب الأمريكي الذي منح صوته لترامب في 2016، ليفوز بالرئاسة على حساب منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، التي استعملت شعارات "Stronger Together" معا أقوى، و"I'm with her" "أنا معها"، و "Fighting for us" "من أجلنا نكافح".
وخلال 2020 استعمل جوزيف بايدن المرشح الديموقراطي شعار "Restore The Soul of The Nation" "استعادة روح الأمة" وكذلك شعار "No Malarkey" "لا للسخافة"، وفي بداية سنة 2021، وبعد الأحداث التي شهدها الكونغرس من اقتحام لأنصار ترامب وبتحريض منه، رُفِعت شعارات مثل "Save America" "أنقذوا أمريكا"، شعار رفعه رودي جولياني، المحامي الخاص للرئيس السابق دونالد ترامب، كما كان استعمال الرئيس جوزيف بايدن لشعار "Unit America" "وحدوا أمريكا" وتكريره مصطلح الوحدة مثيرا للانتباه في حفل التنصيب يوم 20 يناير، وبعده تصريحات نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، التي ركزت على الوحدة وحماية الدستور والديموقراطية الأمريكية من الخطر، ما يظهر بالملموس أن كبار القادة يستشعرون خطر الانقسام.
وإذا سلمنا جدلا أن الشعارات تنبع من الواقع الأمريكي، فهذا يدل على أن هناك أزمة سياسية ومجتمعية عميقة، تعيشها الولايات المتحدة، وطفت على السطح عبر الشعارات المستعملة في الحملات الانتخابية وفي المهرجانات السياسية، وقد تنذر بتصدع الإمبراطورية الأمريكية من الداخل، إذا لم تحدث هبة عاجلة تعيد القطار الأمريكي إلى مساره الصحيح. ويعتبر تسليم السلطة السلس من الإدارة منتهية الصلاحية إلى الإدارة الجديدة، وحضور الرئيس المغادر حفل تنصيب الرئيس الجديد، وتهنئة الرئيس الفائز بالانتخابات من أركان الديموقراطية الأمريكية، وبرفض هذه التقاليد يكون ترامب قد خالف شعاره الانتخابي "Make America Great Again" "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
وإذا كانت أمريكا عظيمة بمؤسساتها الديموقراطية كالكونغرس ومؤسسة الرئاسة والمؤسسات الأمنية في البلد، وباعتبارها أرضا خصبة لتحقيق الأحلام، وبممارسات كالقبول بنتائج الانتخابات من المرشح الخاسر وكذلك من الناخبين، وباحترام المؤسسات سواء أدارها هذا الحزب أو ذاك. فهي بالتالي لا تحتاج إلى شعار مثل الذي رفعه ترامب لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. لكن في المقابل قد يعتبر رد الفعل الذي قامت به مؤسسات وشخصيات بارزة في الحزب الجمهوري نفسه وعلى رأسها مايك بانس، نائب الرئيس ترامب، برفضه اقتحام الكونغرس ومخالفته لترامب في عز أزمة اقتحام الكونغرس، دليلا على قوة هذه المؤسسات وتجذر الثقافة الديموقراطية في صفوف قيادات كبيرة في أمريكا.
فهل تستعيد أمريكا هيبتها وعظمتها وصورتها التي خدشها ترامب ومناصروه؟ وذلك بمحاكمته ومنعه من الترشح في المستقبل؟ أم أنه سيعود أقوى في المستقبل وبشعارات أخرى مثيرة؟
المراجع :
- موقع الجزيرة نت.
- مواقع الحملات الانتخابية للمرشحين للرئاسة.
- أرشيف نيويورك تايمز.
- https://www.independent.co.uk/voices/top-10-political-slogans-a9287626.html
- https://www.forbes.com/sites/matzucker/2020/09/07/campaign-slogans/?sh=47f311542e8f
- موقع ويكيبيديا.
كتبه محمد أوعزيز
تعليقات
إرسال تعليق